لتصعيد في السودان.. خطر يقترب من حدود مصر الجنوبية
التصعيد في السودان.. خطر يقترب من حدود مصر الجنوبية

تشهد السودان منذ شهور تصاعدًا خطيرًا في الصراع العسكري بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع، صراع بدأ كخلاف داخلي على السلطة، لكنه تحوّل اليوم إلى حرب أهلية مفتوحة تهدد وحدة الدولة السودانية، بل واستقرار الإقليم بأكمله، وعلى رأسه **مصر** التي تمتلك حدودًا تمتد لأكثر من 1200 كيلومتر مع السودان. ومع التطورات الأخيرة في إقليم دارفور وسقوط مدينة الفاشر – آخر معاقل الجيش هناك – بات خطر الانقسام السوداني واضحًا، وأصبح الأمن القومي المصري أمام اختبار حقيقي غير مسبوق منذ عقود.
جذور الأزمة: من الثورة إلى الحرب
بدأت الأزمة الحالية في السودان منذ عام 2019 عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير بعد احتجاجات شعبية واسعة، فانتقل الحكم إلى مجلس عسكري انتقالي تولاه الفريق عبد الفتاح البرهان، بمشاركة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي».
تكوّنت قوات الدعم السريع في الأصل من ميليشيات «الجنجويد» التي استخدمها البشير لقمع التمرد في دارفور منتصف الألفية الماضية، ومع مرور الوقت تحوّلت إلى قوة ضخمة تمتلك سلاحًا وتمويلًا مستقلًّا من تجارة الذهب وطرق التهريب العابرة للحدود.
عقب سقوط البشير، اتفق البرهان وحميدتي على تقاسم السلطة لفترة انتقالية تمهيدًا لتسليم الحكم لحكومة مدنية. غير أن الخلافات بدأت حين حاول الجيش دمج قوات الدعم السريع ضمن صفوفه، وهو ما رفضه حميدتي بحجة «الحفاظ على التوازن»، لتنفجر شرارة الحرب في 15 إبريل 2023، وتتحول البلاد إلى ساحة صراع دموي استمر حتى اليوم.
دارفور على حافة الانفصال
التطور الأخطر حدث خلال الأسابيع الأخيرة، حين أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة الفاشر في غرب السودان، وهي العاصمة الإقليمية لولاية شمال دارفور، وآخر معقل للجيش في الإقليم.
بسقوط الفاشر – إذا تأكدت السيطرة الكاملة – تكون دارفور بأكملها قد خرجت من يد الدولة المركزية، مما يمهد فعليًا لتقسيم السودان إلى كيانين: شرقي وغربي.
إقليم دارفور ليس مجرد أرض صحراوية نائية، بل منطقة استراتيجية تمثل أكثر من ربع مساحة السودان، وتزخر بثروات طبيعية هائلة من الذهب والنفط واليورانيوم والمعادن النادرة، فضلًا عن موقعها الذي يربط السودان بليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان.
سيطرة قوة متمردة على هذه المنطقة الغنية تعني بروز كيان مسلح يمتلك المال والسلاح والدعم الخارجي، على مقربة خطيرة من **الحدود الجنوبية لمصر**.
مأساة إنسانية غير مسبوقة
التقارير الأممية والحقوقية تتحدث عن **كارثة إنسانية مروعة** في دارفور، إذ تُرتكب جرائم حرب واسعة ضد المدنيين، من قتل واغتصاب ونهب وتطهير عرقي، وصلت إلى حد المقارنة بما جرى في رواندا في التسعينات.
المنظمات الإنسانية تؤكد أن أكثر من **9 ملايين سوداني** اضطروا للنزوح، وأن الملايين يعيشون تحت الحصار والجوع والمرض، فيما يُمنع وصول الإغاثة إلى مناطقهم.
الصور القادمة من الفاشر ونيالا وزالنجي تُظهر مدنًا مدمرة بالكامل وجثثًا في الشوارع، وسط صمت وتعتيم إعلامي غير مسبوق.
استمرار هذه الأوضاع يعني خطر انتقال موجات جديدة من اللاجئين إلى شمال السودان، ومن ثم إلى الحدود المصرية، بما يشكل عبئًا اقتصاديًا وأمنيًا وإنسانيًا كبيرًا على القاهرة.
خطر مباشر على الأمن القومي المصري
رغم أن مصر التزمت منذ بداية الحرب بسياسة الحياد والدعوة إلى الحوار، إلا أن تصاعد الصراع بهذا الشكل يجعل من المستحيل تجاهل تداعياته.
فمن الناحية الأمنية، وجود كيان مسلح على حدود مصر الجنوبية يعني احتمال **تسرب الأسلحة والمرتزقة** عبر الحدود، وظهور نشاطات تهريب واسعة يمكن أن تهدد استقرار مناطق أسوان وحلايب وشلاتين.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن سيطرة الميليشيات على مناجم الذهب في دارفور قد تفتح الباب أمام اقتصاد موازٍ غير شرعي يضرب الأسواق الإقليمية ويؤثر على تجارة الذهب والعملة في المنطقة.
أما سياسيًا، فإن تقسيم السودان سيخلق واقعًا جديدًا على حدود مصر، ويجعلها مجاورة لدولتين بدل دولة واحدة، إحداهما شرعية والأخرى متمردة، وهو ما يزيد من تعقيد أي علاقات مستقبلية أو تعاون حدودي أو مائي، خصوصًا في ظل تعقيدات ملف سد النهضة وأمن مياه النيل.
البعد الإقليمي والدولي
تؤكد تقارير أممية وصحفية أن هناك **تدخلات إقليمية** في الصراع السوداني، وأن بعض الدول تقدم دعمًا ماليًا أو عسكريًا لأحد الأطراف طمعًا في ثروات السودان أو موقعه الجيوسياسي.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن استمرار الحرب سيؤدي إلى **انهيار الدولة السودانية بالكامل** خلال شهور، ما سيحوّلها إلى بؤرة جديدة للفوضى على غرار ليبيا وسوريا، وهو كابوس لأي دولة مجاورة، خاصة مصر التي تعتمد على استقرار السودان كعمق استراتيجي لها في الجنوب.
كما أن وجود فراغ أمني في دارفور قد يجذب جماعات متطرفة أو شبكات مرتزقة دولية، مما يجعل الحدود الجنوبية مصدر قلق دائم.
ما الذي يمكن فعله؟
تحتاج مصر والمجتمع الدولي إلى تحرك عاجل لاحتواء الأزمة.
فعلى الصعيد الدبلوماسي، يجب تفعيل دور **الآلية الرباعية** (مصر، السعودية، الإمارات، والولايات المتحدة) لدفع الطرفين نحو وقف إطلاق النار واستئناف المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الإفريقي.
أما إنسانيًا، فيجب فتح ممرات آمنة لإدخال الغذاء والدواء، وتنسيق جهود الإغاثة بالتعاون مع الأمم المتحدة ومنظمات الصليب الأحمر والهلال الأحمر.
كما يتعين على مصر تعزيز مراقبة حدودها الجنوبية والتعاون الاستخباراتي مع السودان ودول الجوار، لمنع تهريب الأسلحة والمقاتلين، وضمان ألا تتحول الحدود إلى نقطة اختراق للأمن القومي.
ختامًا
إن ما يجري في السودان ليس شأنًا داخليًا بعيدًا عن مصر، بل **خطر يقترب بخطوات متسارعة** من حدودها.
فانقسام السودان أو سقوطه في فوضى شاملة يعني فتح جبهة جديدة من التوتر في الجنوب، في وقت تواجه فيه القاهرة تحديات إقليمية معقدة في الشرق والغرب.
ولذلك، فإن إدراك حجم الخطر واتخاذ خطوات استباقية دبلوماسية وأمنية وإنسانية أصبح ضرورة قصوى، لأن استقرار السودان ليس فقط مصلحة سودانية، بل هو **حائط الصد الأول لأمن مصر القومي واستقرار المنطقة بأكملها**.