الإعلام والصراع الجيوسياسي في اليمن

في هذه المرحلة المفصلية، يطالعنا الفضاء العام بسيلٍ من الآراء المتناقضة التي يطرحها ناشطون وسياسيون، بين مؤيد للوحدة اليمنية، ومعارض لها، وداعٍ إلى فك الارتباط بين الشطرين. غير أن هذا الجدل، في جوهره، لم يعد نقاشًا وطنيًا ناضجًا بقدر ما أصبح ساحة صراع جيوسياسي تُستغل فيها القضايا المصيرية كأدوات نفوذ، ووسائل لشرعنة المصالح الضيقة وتدوير الثروة والسلطة.
الإعلام وتأثيره على المج مع اليمني
الإعلام، بوصفه الفاعل الأخطر في تشكيل الوعي، لم يعد وسيطاً محايدًا بين الرؤى، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى منصة أحادية الصوت، تُقصي الرأي الآخر وتعيد إنتاج خطاب موجَّه يخدم طرفاً واحداً. هذا الانحياز الإعلامي، بما يملكه من أدوات التأثير الرمزي والنفسي، يسهم في سحق التعدد، ويؤثر مباشرة في تشكيل القناعات الفردية والجمعية.
الخطاب السياسي وسردياته
الأكثر إيلاماً أن هذا الخطاب لا يقتصر على العامة، بل نجد شخصيات أكاديمية ونخباً فكرية، يُفترض أنها تدرك آليات التضليل الإعلامي وصناعة السرديات السياسية، تنخرط في إعادة إنتاج هذا الخطاب العاطفي، وتتعاطى مع القضايا المصيرية بمنطق الاصطفاف لا التحليل.
الواقع الحضرمي بين الانجرار بين الأكاذيب الأحداث السياسية:
أما الواقع الحضرمي، فيعكس نموذجاً صارخاً لهذه الأزمة؛ واقعاً مشحوناً بالانفعالات، حيث يُستقبل الحدث السياسي بردود فعل آنية، تقوم على التلقّي لا على الفهم، وعلى الانجرار خلف العناوين لا تفكيك السياقات. وهو ما يجعل المشهد مؤسفاً على المستويين العاطفي والوطني.
السياسة المعقدة:
السياسة في هذا السياق تبدو كشبكة معقّدة من المصالح المتداخلة، أشبه بشباك العنكبوت، يصعب على المواطن العادي تمييز خيوطها. وقد كانت بعض المنصات الإعلامية العربية، مثل الحدث والعربية، تُقدَّم سابقًا كنماذج للإعلام السياسي المهني، إلا أن الممارسة الراهنة تكشف عن خطاب انتقائي، يفتقر إلى التوازن ويغلب عليه التوظيف السياسي.
المفارقة أن الإعلام الذي يرفع شعار مكافحة الأخبار الزائفة، أصبح في أحيان كثيرة يمنحها منابر، ويعيد تدويرها، بما يخدم خطاب الاستقطاب، ويُعمّق الانقسام بدلاً من تفكيكه.
اليمن نحو التفكك
من حيث المبدأ، فإن الشطرين، الشمالي والجنوبي، يمتلكان الحق الكامل في تقرير مصيرهما، واتخاذ القرار الوطني الذي ظل معلقاً لما يقارب ثلاثة عقود. ففي الشمال، تتعدد أشكال المقاومة بين القلم والسلاح، فيما يعيش قطاع واسع من المجتمع حالة خوف وضبابية رؤية، نتيجة تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية، وضيق أفق الدولة المركزية. ومع ذلك، فإن أي مسار سياسي مستقل، إذا ما أُدير بعقلانية، قد يفتح آفاقاً للتنمية المستدامة وإعادة بناء الدولة على أسس وظيفية أكثر كفاءة.
التاريخ لا يمكن تزويره
وفي المقابل، لا يمكن إنكار مشروعية المطالب الجنوبية، التي تنطلق من حق تاريخي في استعادة الدولة، وبناء الاستقرار، بعد عقود من الصراعات السياسية وهيمنة مراكز النفوذ التي أفرغت التجربة الوحدوية من مضمونها.
الفكر الحضرمي وغياب الوعي السياسي
أما في حضرموت، فيتردد خطاب ملتبس يرفض تصنيفها ضمن الجنوب، دون سند تاريخي أو قراءة معمقة للسياق السياسي والجغرافي. ويُطرح، في المقابل، خيار الدولة الحضرمية أو الحكم الذاتي، أحياناً بدافع الوعي، وأحيانًا أخرى كنتيجة مباشرة لحالة الارتباك السياسي وغياب المشروع الواضح… إن الإشكالية هنا ليست في تعدد الخيارات، بل في غياب النقاش العقلاني حولها. فالتاريخ لا يُقرأ بالشعارات، والمستقبل لا يُبنى بردود الفعل، بل بفهم عميق للسياق، وإدراك أن الحق في الاختلاف لا يُسقط حق أي طرف في طرح تصوره لمستقبله.
في النهاية، لا تكمن الأزمة في الجغرافيا بقدر ما تكمن في الخطاب، ولا في شكل الدولة بقدر ما تكمن في طبيعة الوعي الذي يُنتجها
كتب | عبدالعزيز فيصل