
جورج وسوف: سلطان الطرب وصوت الوجع الجميل

الميلاد والبدايات
وُلد جورج وسوف في الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1961 في بلدة كفرون الصغيرة بمحافظة حمص السورية، وسط عائلة متوسطة الحال تحب الغناء والطرب الأصيل. منذ طفولته، أظهر موهبة غنائية فريدة، فكان يردد ألحان أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووديع الصافي بصوت لافت. لم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حين بدأت شهرته تنتشر في قريته وما جاورها، حتى صار يُلقب بـ"الطفل المعجزة".
في تلك الفترة، كان الغناء بالنسبة له أكثر من مجرد هواية؛ كان وسيلة للتعبير عن نفسه وعن عمق أحاسيسه. لاحظ أحد أساتذته في المدرسة جمال صوته، فشجّعه على المشاركة في الحفلات المدرسية، ليصبح بعدها نجم القرية الصغير الذي ينتظره الجميع في كل مناسبة.
الانطلاقة نحو النجومية
جاءت الفرصة الكبرى حين سمعه أحد متعهدي الحفلات يغني في إحدى المناسبات، فدعاه للغناء في بيروت. لم يتردد الشاب الصغير في خوض المغامرة، فانتقل إلى العاصمة اللبنانية وهو في السادسة عشرة من عمره، وهناك بدأت أسطورته تتشكل.
في بيروت، جذب الانتباه في المقاهي والملاهي الليلية بأدائه الطربي الأصيل وصوته المبحوح المليء بالشجن. لقبوه بـ"الوسوف الصغير" ثم "سلطان الطرب"، وهي تسمية التصقت به لاحقًا لتصبح جزءًا من هويته الفنية.
الأغاني التي صنعت المجد
خلال الثمانينيات والتسعينيات، توالت النجاحات الكبرى. أطلق جورج وسوف مجموعة من الأغنيات التي خلدت اسمه في الذاكرة العربية، مثل:
كلام الناس
طبيب جراح
حد ينسى قلبه
صابر وراضي
سلف ودين
حلف القمر
الهوى سلطان
كانت أغنياته مزيجًا بين الحنين والوجع والرجولة الشرقية الأصيلة. في صوته بُحّة فريدة، لا تشبه أحدًا، وفي أدائه صدق نادر يجعل المستمع يصدق كل كلمة يرددها، حتى كأنها تُحكى عن نفسه.
الوسوف بين المجد والمعاناة
رغم الشهرة الواسعة التي حصدها، لم تكن حياة جورج وسوف خالية من الألم. فقد واجه صعوبات عديدة، من أزمات صحية إلى ابتلاءات شخصية قاسية. في عام 2011، أصيب بجلطة دماغية كادت تضع حدًا لمسيرته، لكنه عاد بعد رحلة علاج طويلة بإرادة فولاذية وصوتٍ لم يفقد بريقه.
حين وقف من جديد على المسرح، بكى جمهورُه قبل أن يغني، لأنهم رأوا أمامهم فنانًا انتصر على المرض كما انتصر على الزمان.
الوسوف والهوية الفنية
ما يميز جورج وسوف ليس صوته فقط، بل حضوره الآسر وشخصيته القريبة من الناس. لم يبدُ يومًا نجمًا متعاليًا، بل كان دائمًا "الزلمي الشعبي" الذي يتحدث بصدق، ويغني بعمق، ويعيش ببساطة.
في عالم الموسيقى العربية الحديثة، ظلّ جورج وسوف رمزًا للغناء الطربي المحافظ على أصالته، رافضًا الانسياق وراء الموجات التجارية. وهو بهذا المعنى يشبه مدرسة فنية قائمة بذاتها، تربّت على صوته أجيال من المغنين والمستمعين.
الفن كحياة
قال الوسوف ذات مرة: "الفن ما بيطعمي خبز، بس بيطعمي روح."
تلك العبارة تختصر فلسفته في الحياة. فالفن عنده ليس وسيلة للشهرة أو المال، بل هو طريق العذاب الجميل الذي لا يُختار بل يُعاش. صوته المبحوح يشبه رحلة الإنسان مع القدر: حزنٌ، حبٌ، تمردٌ، وتسليم.
الإرث والخلود
اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود من العطاء، أصبح جورج وسوف أسطورة حية في تاريخ الغناء العربي. حفلاته ما زالت تملأ المسارح، وأغانيه تُسمع في كل بيت عربي، بينما صوته ما زال يحمل تلك النبرة التي تجمع بين الكبرياء والوجع.
قد تتغير الأذواق وتتبدل الأجيال، لكن يبقى الوسوف حالة فنية نادرة لا تتكرر. فكلما سمع الناس صوته يقول "جانا الهوى"، يعود الزمن بذاكرتهم إلى تلك اللحظة التي اكتشفوا فيها أن الفن يمكن أن يكون صادقًا حدّ الوجع، وأن الطرب الحقيقي لا يموت.