صالح الجعفراوي"نجم أفل وذكراه يتنفس فينا… حين يغيب من ترك أثرًا، يولد من فقده ألف وريث مثله"
نجم أفل وذكراه يتنفس فينا… حين يغيب من ترك أثرًا، يولد من فقده ألف وريث مثله"

اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، شعرت بثقل الصمت الذي تركه وراءه. صموده لم يكن مجرد ذكرى عابرة، بل صرخة في وجه الظلام، درس من الإصرار وسط الخوف، وفي شجاعة مواجهة الحقيقة مهما كانت التضحيات.
رحيله لم يكن فقدًا عابرًا، بل جرح غائر في القلب، وإرثًا من الصدق والشجاعة يجلجل في أذهاننا. إنه يذكرنا بأن الصوت الحر لا يُقتل، وأن الحقيقة، مهما حاولوا طمسها، تبقى خالدة في الأرجاء .
صوت للحق بين الركام
في صمتٍ يخنق المكان، تتهاوى البيوت كأوراق خريف ممزقة، والطرق تئن تحت وطأة الخراب، والوجوه تحمل وجعًا لا يُسمع. هناك، بين الركام والدخان، حيث تختلط صرخات الحياة بالموت ، بين دمارٍ موحش وأطفالٍ يبكون خوفًا من الصواريخ العشوائية، وأدخنة تتصاعد في السماء، ينبعث صوت للحق، صوت بارز فوق كل تلك الآلام والفقدان والتشرد والمجاعة. يطل وجهاً للحقيقة، مباشرة، ينقل كل حدث كما هو، دون أي كواليس خادعة.
ناشد وأعلن، وجعل الكاميرا سلاحه الوحيد تحت مسمى نقل جرائم المحتل والعروبة البكماء. لكنه لم يتلق سوى الخذلان، تجرع الألم حتى أضعفه، ومع ذلك صمد وصبر
لم يكن يبحث عن الشهرة، ولا عن الاعتراف، بل عن أن يرى العالم ما يحدث خلف الجدران المهدّمة، بين الأنقاض
كل صورة، كل فيديو، كان ينقل صرخة لم يسمعها الكثيرون، رسالة مخفية بين الدمار: أن الحقيقة تحتاج من يحملها حتى في أحلك الظروف
الإنسانية وفؤادها
رأى كل المشاهد، حمل قلبًا طيبًا لا يقارن، أعان من طلب المساعدة، وأدفأ من احتاجه، وساند من جاء ضعيفًا، وكان كالملاك يبتسم له الأطفال حين مقابلته.
مَنّ عليه خالقه بحنجرة تُرقِص الأزهار حين سماعه وكان صوته دفئاً لشعبه ولمن نجى قلبه من العمى في أمته.
كان حاضرًا دائمًا حيث يخشى الآخرون الاقتراب، يركض نحو الانفجارات والدمار، يسجل المشاهد التي قد تبدو للعينان مستحيلة. لم يكن مجرد صحفي، بل كان شاهدًا حيًا على الألم والخراب، ينقل صورًا صادمة لكنها تحمل رسائل صمود.
أحيانًا، حين أتابع صوره، أجد نفسي أسمع الأنين خلف اللقطات: الأطفال يختبئون بين الركام، المنازل نصف مهدمة، الدخان يملأ السماء، والوجوه متعبة، مرتعبة، لكنها ترفض الاستسلام. وكل ذلك كان يمر من أمام عدسته، في حين كان قلبه ينبض بنفس الألم والصرخة التي يحاول نقلها للعالم
الابتسامة في جوف الخوف..
اعتدنا على رؤيته مبتسمًا حتى في أصعب الظروف. كم مرة ابتسمنا بسماع حديثه، وكم مرة غمرتنا السكينة حين سمعنا صوته؟
عجباً لأمره حين كان يروي موقفًا صادفه، وكان يعلم في أي دقيقة أنه قد يرحل إلى عالم آخر، إلا أنه كان يرويه وقهقهته تدغدغ قلوبنا. وكأن الشهادة عنده حلوى بعد مرارة الظروف الوعرة.
منشوراته ومقاطع فيديوهاته صارت تعاهد عيوننا حتى لا نغفل عنها. كان يدفع روحه مقابل الحقيقة، حمل الأمانة كما يجب، وتحدى الموت ألف مرة، واقفًا شامخًا بين أصوات الانفجارات والزنانات وبين أدخنة نقشت آلاف الشهداء على سماء مدينته.
_______________
واجه الخوف والمجاعة والألم بيدين هزيلتين حتى غلبها..
وأعلن لنا توقف الإبادة بتلك الحنجرة الذهبية بل الأغلى من ذلك..حتى رَأَيْنَاهُ ك الشريف وهو يعلنها وهناك من حمله ك أنس، لكنه لم يخلع الخوذة لعلمه أنه لن يقف هنا ..
فهناك من يجب الثأر لدمائهم …
سعدنا بمشاهدته في خيمة واحدة بين المناضلين من زملائه واستمتعنا بنغمات صوته وفرحته
"غريب الفراق"..
ولا ننسى أن أرواحنا سكنت حين فتح باب داره ..
ويبقى الفلسطيني يدفع روحه مقابل مفتاح داره يحمله أين ما ذهب ولا يفرط به ...فكما حماه سطح داره سيحمي مفتاحه.
________ _________
لاصطدم بأن أرى جثته وتحتها مكتوب: "لم ينل منه الاحتلال طوال عامين من العدوان، فنالت منه أيدي أعوانه!"
لم تكن صدمة موته أكبر من صدمة من قتله
لم يكن إستشهاده كما تمنى في ميادين إعلان الحق أمام تلك الدار المهدومة وخلفه شهداء أو جرحا أو تحت قصف كما علِمنا غيره من الصحافة..
وإنما ممّن حملوا دم من دمه أبناء شعبه..
أُناس باعوا أنسابهم وشرفهم ودينهم ودماء إخوانهم فداً للمال والعدو الصهيوني..لقد هرولت الكرامة منهم خوفا من أن ينسَبُوها لهم وهم لم يفقهوها حتى..
ضلت أفكاري تشاورني..كيف غدروا به؟ أو كيف أختطفوه؟ أو كيف واجه هذه الحقيقة؟أو ..أو..أو...
حتى بَحَثتُ في قنوات وجُروبات ومواقع أخرى أبحثُ عن حقيقة أمره..
لأجد : "بشكل مؤكد، بعد إبلاغ عائلته: ارتقاء الصحفي صالح الجعفراوي أثناء التغطية الإعلامية في مدينة غزة".
هنا وقعت أفكاري كلها أرضا، وبدأ فؤادي ينزف قهره..أما عيناي، فتوقفت دموعها من الانهمار لوهلة، مصدومة لعل ذاك حلم أو إشاعة..
لكن صورة جثمانه أبعدت عني كل الشكوك بذلك..
الفقدان والوصية
حين رحل فجأة، شعرت بفقدٍ عميق، كأن جزءًا من صمود الإنسان اختفى مع غياب صوته. لم يكن مجرد شخص، بل رمز للشجاعة وللمصداقية في مواجهة الخوف، شهادة حية على أن الكلمة يمكن أن تتحدى الخراب والموت.
ومع ذلك، رغم رحيله، ظل صوته حيًا في كل صورة، في كل فيديو، وفي كل قصة حاول أن ينقلها قبل أن يغادر هذا العالم.
هذا الشاب علَّمنا أن نقل الحقيقة ليس مجرد عمل، بل مسؤولية، وشجاعة، وإيمان بأن الصوت الحر يستحق أن يُسمع مهما كلفنا الأمر. حتى في أحلك الظروف، يظل الإنسان نورًا، والكلمة المصوّرة أحيانًا أقوى من أي سلاح.
“انتَظر يوم لقائه بأخيه، حتى جاء الرحيل وترك خلفه وصيته المؤلمة.”
أن يرحل إلى تحت الرمال التي أبت أن تبتلعه منذ سنتين حتى يكون شاهد على كل صامت وكل من خذله.
ولا يقام أذان المغرب حتى وجد أخاه حريته من بين الضباع الجائعة..
أيبتسم والدَهُ لرؤية قرة عينه أم يبكي لفراق فلذة كبده؟..
فالعزاء لأهله..ولقلوبنا المقهورة..
لكن صمود أخاه أذهب عني حزني ..وجعلني أدرك انه مازال يحيى بين أولئك الصحافة والصحابة والرسل الذين سبقوه..
السؤال والرسالة
أحيانًا أفكر: لو لم يكن هناك من يوثق هذه المشاهد، هل سيصدق أحد يومًا حجم الألم؟ هل سيعرف العالم أن هناك من يصر على الصمود، رغم الخوف، رغم الموت؟
هو علمنا أن مجرد الوجود في قلب الحدث، مجرد حمل الكاميرا ومواجهة الخطر، يمكن أن يكون رسالة بحد ذاتها، رسالة للشجاعة والإنسانية
فكما قال..لا تظنوا أن استشهادي نهاية، بل هو بداية لطريقٍ طويلٍ نحو الحرية. أنا رسول رسالةٍ أرادت أن تصل إلى العالم إلى العالم المغمض عينيه، وإلى الصامتين عن الحق.
وإن سمعتم بخبري، فلا تبكوا عليّ. "لقد تمنّيتُ هذه اللحظة طويلًا، وسألت الله أن يرزقني إياها فالحمد لله الذي اختارني لما أحب".
وكما وصانا..
أوصيكم أن تذكروني في دعائكم، وأن تُكملوا المسير من بعدي. تذكروني بصدقاتٍ جارية، وأذكروني كلما سمعتم الأذان أو رأيتم النور يشقّ ليل غزة.
فهو بحاجة لدعائكم فلا تتخاذلوا بهذه كما تخاذلتم بتلك يوم شَحُبَت حنجرته وهو يناشدكم..
أوصيكم بالمقاومة… بالطريق الذي سرنا عليه، وبالنهج الذي آمنا به. فما عرفنا لأنفسنا طريقًا غيره، ولا وجدنا معنى للحياة إلا في الثبات عليه.
أوصيكم بفلسطين… بالمسجد الأقصى…
كان مؤمناً أنه سيأتي يوم وتُفرَج ويرفع عنهم البلاء ... ومؤمن أن" التضحية سنة التحرير"...
فاجعلوا هذه الكلمات شعار لقلوبكم
تسقط الكلمة، ولا تسقط الصورة
الكلمة أمانة، والصورة رسالة،
احملوها للعالم كما حملناها نحن.
______________
ففقدان شاب كصالح الجعفراوي خسارة موجعة، وذنب جديد أضيف إلى كاهل العروبة التي خذلته وأدارت بوجهها عنه وعن غيره من أبناء غزة.
لقد صمت أصحاب السلطة عن صرخاتهم، بينما الغرب استباح الإبادة وباركها بصمته ومواقفه.
حسبنا الله ونعم الوكيل.…
وعار علينا أن يُسمى عصرنا بـ "عصر الخذلان".
والسلام لقلوبكم
.....♡♡.…